بداية أرحب بضيوفنا الكرام وأشكرهم على تشريف الهيئة بحضورهم...

أيتها السيدات، أيها السادة،

تعتبر المناسبات المرتبطة بتاريخنا الوطني دائمًا فُرصًا ثمينة تستوجب منا الوقوف عندها والتذكير بدور أمجاد أمتنا فيها... وهي باستمرار تكون وقفات تمكننا من استخلاص الدروس من مجرياتها وتسجيل العرفان لكل الذين قدموا (عبر السنين) التضحيات وحققوا الانتصار للجزائر ومكنوها من انتزاع الحرية لأبناء شعبها...

... مجلس الأمة منطلقًا من هذا الفهم للموضوع ورغبة منه في استغلال هذه المناسبة التاريخية الهامة ارتأى أن ينظم هذه الندوة الخاصة بمجازر 8 ماي 1945... وهي المجزرة التي تُعدُّ حقًا واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت ضد شعبنا بل ضد الإنسانية قاطبة...

l... إنها جرائم إبادة جماعية حقيقية لن نكون مبالغين إذا وصفناها بهذه الأوصاف...

ولتَحَرِّي الموضوعية في المعالجة وإعطاء الحكم ارتأينا في هذه المناسبة أن نترك الكلمة لأصحاب الاختصاص ليقولوا كلمتهم ويقدموا قراءتهم في الموضوع...

أيتها السيدات، أيها السادة،

وإذا كنا نُحْيي اليوم هذه الذكرى رمزيًا عبر تقديم عروض علمية لأساتذة أجلاء مختصين في الموضوع ونعالج وقائعها من زاوية نعتبر أن المعالجة في إطارها ليست كاملة فإن ذلك لا يعني أيضا أن مسألة التاريخ والذاكرة لا تَقْبَل بالاختزال المناسباتي...

... لأن مثل هذه الوقفات لا تعدو أن تكون سوى محطات رمزية لكنها تبقى مع ذلك ضرورية وهامة في حياة الأمة...

لأنها تعد مناسبة تعطينا الفرصة لكي نجدد العهد والوفاء لأولئك الذين تَوَّجُوا بتضحياتهم تاريخ هذه الأمة...

المناسبة من جهة ثانية تنطوي على دلالات تاريخية وقانونية... لكن المناسبة تعد خاصة منارة بارزة رسمت وأضاءت بالوقت ذاته طريق المستقبل للأجيال المتعاقبة إلى أن جاءت ثورة نوفمبر الخالدة...

إننا منطلقين من هذا الفهم للموضوع ركزنا الاهتمام على التاريخ والذاكرة لأن التاريخ والذاكرة ليس مسألة معرفية عادية تتوقف عند حدود العِلْم بالشيء أو وصفه... بل هي معالم نسترشد بها طريقنا نحو المستقبل كونها تعد دائمًا علامات مضيئة في مسار أمتنا، ولأنها تُشكل إحدى خصوصيات نضال شعبنا عبر العصور، وطيلة مراحل الليل الاستعماري الاستطاني المقيت...

... إننا إذ ننظم هذا اليوم الدراسي حول مجازر 8 ماي 1945 ونحدد إطار محاوره فإننا نفعل ذلك أيضا لكي يعلم أولائك الذين من وراء البحر يريدون طمس الحقيقة والتستر على ماضيهم الكئيب في الجزائر من خلال سعيهم تبييض صفحات سلوكاتهم المجرمة والتي تمثلت بوجه الخصوص في تزييف أعمالهم النكراء ضد الشعب الجزائري وسعيهم المتواصل لطمس الحقيقة الاستعمارية والتستر على أفعالهم التي لا تزال إلى اليوم تصرخ بقوة في وجه الراغبين في طي صفحة الماضي عبر سعيهم تلميع مشهده المقيت...

 

أيتها السيدات، أيها السادة،

l عندما سقط الشهيد بوزيد سعال... كانت بالواقع لحظة حاسمة في تاريخ الجزائر، كونها فجَّرت الغيظ والحقد الاستعماري على الشعب الجزائري، وبنفس الوقت مهدت الطريق لسياسة غير محسوبة العواقب وجرّتها في وَحْلِ حرب إبادة حقيقية دفع شعبنا فيها الثمن غاليًا...

هذه السلوكات وهذه السياسة أعطت درسًا للشعب الجزائري وجعلت نخبته تفكر في مراجعة النفس والتحضير لثورة نوفمبر الخالدة وخوض الكفاح المسلح لانتزاع الاستقلال الوطني...

بعد الاستقلال عملت الجزائر مع فرنسا على أساس فتح صفحة جديدة في إطار التعاون الذي يعود بالفائدة على الطرفين... لكن ما نلاحظه للأسف اليوم هو أن ذهنيات بعض المسؤولين السياسيين والبرلمانيين (من حسن الحظ أنهم ليسو كثرًا) نقول في الضفة الشمالية للمتوسط لم تهضم فكرة الجزائر المستقلة لا تتحرج (إلى اليوم) من إطلاق نداءات على شبكة التواصل الاجتماعي تدعو الشعب الفرنسي فيها إلى الاعتزاز والفخر بتاريخه بمناسبة 8 ماي !! بل وجدنا من هؤلاء من تجرأ على مناشدة الفرنسيين بالاعتزاز بالدور الإيجابي للاستعمار في الجزائر!!

وإننا في نفس الوقت لا نزال نفاجئ بين الحين والآخر ببروز توجهات من أنصار الفكر الاستعماري الاستعلائي الحاقد، نقول لا تزال تحن إلى اليوم على ذلك الماضي الاستعماري الغابر...

 

أيتها السيدات، أيها السادة،

إن تنظيم مجلس الأمة لهذه الندوة التاريخية بمناسبة الذكرى الواحدة والسبعين لمجازر 8 ماي 1945 يندرج في إطار المنهجية المعتمدة الخاصة بالنشاطات الفكرية وترقية الثقافية البرلمانية بحيث نُولي فيه الأهمية للتاريخ تثمينًا لهذا الإرث الوطني وترسيخًا للاعتزاز بالانتماء...

وانطلاقًا من قناعتنا بأن واجب حماية التاريخ والذاكرة ومحاربة النسيان يتطلب مساع دؤوبة ومُثابرة تُبذل في إطار برامج وخطط ناجعة تكفل تطوير مناهج البحث التاريخي والتوثيق على أوسع نطاق... وعلى هذا الأساس جاء الدستور الذي بادر به السيد رئيس الجمهورية، نقول جاء ليكرس احترام رموز الثورة التحريرية ويدعو إلى صيانة الذاكرة العامة للشعب ويؤكد على ترقية كتابة التاريخ الوطني وترسيخه في أذهان أجيالنا القادمة...

ومن هذا المنظور فإننا ننوه ونعبر عن كامل ارتياحنا لما تقوم به وزارة المجاهدين تنفيذًا لبرنامج فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة لتسجيل الشهادات وجمع الوثائق والأرشيف وتهيئة المناخ المحفز للباحثين بالتعاون مع الجامعات والمراكز والهيآت المعنية بموضوع التاريخ... وبالتأكيد فإن هذه الندوة ما هي سوى مساهمة متواضعة يتوجب تكرار مثلها مستقبلاً.

وفي الأخير أجدد لكم سيداتي سادتي الشكر على حضور هذه الندوة التي نأمل أن تساهم من خلال محاضرتي الأستاذين الكريمين... ونأمل أن تساهم في تسليط مزيد من الضوء على هول الجريمة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في 8 ماي 1945 وإبراز بشاعتها لتدرك الأجيال القادمة أن الاستقلال لم يكن منحة مجانية وأن من حق الجزائريين التذكير بالحقائق والتعريف ببشاعتها حتى تبقى راسخة في الأذهان... وإذا كان المستقبل يعتبر هامًا في العلاقة ما بين الدول فإن هذا المستقبل يجب أن يبنى على أرضية صحيحة وصلبة خالية من التجاويف التحتية... كما يجب أن تبقى المصارحة بالحقيقة لازمة ولا تتقادم مع الأيام ولا تمحى بالتصاريح الظرفية التي سرعان ما يأتي ما يعاكسها... إذا كنا حقًا نريد أن نبني مستقبلاً واعدًا في فائدة الطرفين...

 

 

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

0
0
0
s2sdefault
diplomatie
culture
porte ouverte